الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ حُجْرٍ فِى بَعْضِ حُجَرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ. - وفيه: سَهْلَ أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ فِى جُحْرٍ فِى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِى؛ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنَيْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ). اختلف العلماء فى هذه المسألة، فروى عن عمر بن الخطاب وأبى هريرة أنه لا دية فيه ولا قود، وبه قال الشافعى. وذكر ابن أبى زيد فى النوادر عن مالك مثله. قال الطحاوى: لم أجد لأبى حنيفة وأصحابه نصا فى هذه المسألة غير أن أصلهم أن من فعل شيئًا دفع به عن نفسه مما له فعله أنه لا يضمن ما تلف له، مثال ذلك المعضوض إذا انتزع يده من فى العاض فسقطت ثنيتاه أنه لا شىء عليه؛ لأنه دفع به عن نفسه عضه، فلما كان من حق صاحب البيت ألا يطلع أحد فى بيته قاصدًا لذلك؛ لأن له منعه ودفعه عنه كان ذهاب عينه هدرًا، على هذا يدل مذهبهم. وقال أبو بكر الرازى: ليس هذا بشىء ومذهبهم أنه يضمن؛ لأنه يمكنه أن يمنعه من الاطلاع فى بيته من غير فقء عينه بأن يزجره بالقول أو ينحيه عن الموضع، ولو أمكن المعضوض أن ينتزع يده من غير كسر سن العاض وكسرها ضمن. وروى ابن عبد الحكم، عن مالك أن عليه القود، واحتج الشافعى بأن النبى صلى الله عليه وسلم قام إلى الذى اطلع عليه بالمدرى وقال: (لو أعلم أنك تنتظرنى لفقأت عينك) ومثله صلى الله عليه وسلم لا يقول ما لا يجوز له أن يفعله، ومن فعل ما يجوز له لم يجب عليه قود. واحتج المالكيون بقوله تعالى: {والعين بالعين} [المائدة: 45] وقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] قالوا: وهذه النصوص تدل على أن قوله: (لو أعلم أنك تنتظرنى لطعنت به فى عينك) إنما خرج منه على وجه التغليظ والزجر لا على أنه حكم وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن غل فأحرقوا رحله واحرموه سهمه) ومثل ما هم بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة ولم يفعل. ومما يدل على أن الحديث خرج على التغليظ إجماعهم لو أن رجلا اطلع على عورة رجل أو سوءته أو على بيته، أو دخل داره بغير إذنه أنه لا يجب عليه فقء عينه، وهجوم الدار أشد عليه وأعظم أيضًا، فلو وجب فقء عينه لاطلاعه لوجب عليه ذلك بعد انصرافه؛ لأن الذنب والجرم الذى استحق ذلك من أجله قد حصل، وقد اتفقوا على أن من فعل فعلا استحق عليه العقوبة من قتل أو غيره أنه لا يسقط عنه، سواء كان فى موضعه أو قد فارقه. وقد روى عن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أنهم تواعدوا بما لم ينفذوه فروى الزهرى، عن عمر ابن الخطاب أنه قال لقيس بن مكسوح المرادى: (نبئت أنك تشرب الخمر. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد أقللت وأسأت، وأما والله ما مشيت خلف ملك قط إلا حدثت نفسى بقتله. قال: فهل حدثت نفسك بقتلى؟ قال: لو هممت فعلت. قال: أما لو قلت نعم لضربت عنقك، اخرج لعنك الله، والله لا تبيت الليلة معى فيها، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال نعم ضربت عنقه؟ قال: لا، ولكن استرهبته بذلك). وروى جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن قال: قال على: لا أوتى برجل وقع بجارية امرأته إلا رجمته، فما كان إلا يسيرًا حتى أتى برجل وقع على جارية امرأته فقال: أخرجوه عنى أخزاه الله.
- فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِى الْقُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلا مَا فِى الْقُرْآنِ، إِلا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِى كِتَابِهِ، وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. أجمع العلماء على القول بالعقل فى الخطأ لثبات ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد روى مالك، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن فى الكتاب الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم فى العقول: (أن فى النفس مائة من الإبل، وفى الأنف إذا ادعى جدعًا مائة من الإبل، وفى المأمومة ثلث الدية، وفى الجائفة مثلها، وفى العين خمسون، وفى اليد خمسون، وفى كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفى السن خمس، وفى الموضحة خمس) أرسل مالك حديث العقول، وزاد فيه معمر، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، إن كان جده لم يدرك النبى صلى الله عليه وسلم وإنما الذى أدركه عمرو بن حزم، وفى إجماع العلماء على القول به ما يغنى عن الإسناد فيه. واختلف العلماء فى هذا الحديث فى الإبهام وفى الأسنان على ما تقدم قبل هذا، وأجمعوا على ما فى سائر الحديث من الديات، قال وجعل النبى صلى الله عليه وسلم فى النفس مائة من الإبل، وقومها عمر بن الخطاب بالذهب والورق، فجعل على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. وقال مالك: أهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق، كان صرفهم ذلك الوقت الدينار باثنى عشر درهمًا، وكانت قيمة الإبل ألف دينار، وإنما تقوم الأشياء بالذهب والورق خاصة على ما صنع عمر، هذا قول مالك والليث والكوفيين وأحد قولى الشافعى. وقال أبو يوسف ومحمد: يؤخذ فى الدية أيضًا البقر والخيل والشاة، وروى عن عمر أيضًا، وبه قال الفقهاء السبعة المدنيون. وقد قال مالك: لا يؤخذ فى الدية بقر ولا غنم ولا خيل إلا أن يتراضوا بذلك فيجوز، ولو جاز أن يقوم بالشاة والبقر والخيل لوجب تقويمها على أهل الخيل بالخيل، وعلى أهل الطعام بالطعام، وهذا لا يقوله أحد. وأجمعوا أن الدية تقطع فى ثلاث سنين للتخفيف على العاقلة ليجمعوها فى هذه المدة، وقد تقدم فى كتاب العلم.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. - وفيه: عُرْوَةَ: أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ مَنْ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِى السِّقْطِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنَا، سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، قَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا. وقال الْمُغِيرَةَ مَرَةٍ: إِنِّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِى إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ. قال مالك: دية جنين الحرة عشر ديتها، والعشر خمسون دينارًا أو ستمائة درهم؛ لأن دية الحرة المسلمة خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم وعلى هذا جمهور العلماء. وخالف ذلك الثورى وأبو حنيفة، فقال: قيمة الغرة خمسمائة درهم؛ لأن دية المرأة عندهم خمسة آلاف درهم على ما روى عن عمر بن الخطاب أنه جعل الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم، وهو مذهب ابن مسعود. وحجة مالك ومن وافقه أن النبى صلى الله عليه وسلم لما حكم فى الجنين بغرة عبدٍ أو أمة، جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة ذلك خمسًا من الإبل وهى عشر دية أمه، وذلك خمسون دينارًا أو ستمائة درهم، ورواية أهل الحجاز أنهم قوموا الدية اثنى عشر ألف درهم أصح عن عمر، وهو مذهب عثمان وعلى وابن عباس. قال مالك فى الموطأ: ولم أسمع أن أحدًا يخالف فى الجنين أنه لا تكون فيه الغرة حتى يزايل أمه ويسقط من بطنها ميتًا، وإن خرج من بطنها حيا ثم مات، ففيه الدية كاملة. قال غيره: والحجة لهذا القول أن الجنين إذا لم يزايل أمه فى حال حياتها فحكمه حكم أمّهِ ولا حكم له فى نفسه؛ لأنه كعضو منها فلا غرة فيه؛ لأنه تبع لأمه، وكذلك لو ماتت وهو فى جوفها لم يجب فيه شىء لا دية ولا قصاص، فإن زايلها قبل موتها ولم يستهل ففيه غرة عبد أو أمة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما حكم فى جنين زايل أمه ميتًا وهذا مجمع عليه، وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى إنما فيه غرة، فإذا زايل أمه واستهل ففيه الدية كاملة؛ لأن حكمه قد انفرد عن حكم أمه وثبتت حياته، فكان له حكم نفسه دون حكم أمه، ألا ترى أنها لو أعتقت أمه لم يكن عتقًا له، ولو أعتقت وهى حامل به كان حرا بعتقها ولا خلاف فى هذا أيضًا. قال أبو عبيد: إملاص المرأة: أن تلقى جنينها ميتًا يقال منه: أملصت المرأة إملاصًا، وإنما سمى بذلك؛ لأنها تزلقه، ولهذا قيل: أزلقت الناقة وغيرها، وكل شىء زلق من يدك فهو ملص يملص ملصًا، وأنشد الأحمر: فرَّ وأعطانى رِشاءً مَلِصا يعنى أنه تزلق من يدى فإذا فعلت أنت ذلك به قلت: أملصته إملاصًا.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِى جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِى لَحْيَانَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ، تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا). - وَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ مرة: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِى بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. قال المؤلف: قوله فى آخر الحديث: (وأن العقل على عصبتها) يريد عقل دية المرأة المقتولة لا عقل دية الجنين، يبين ذلك قوله فى الحديث الآخر: (وقضى أن دية المرأة على عاقلتها) وقوله فى الترجمة: إن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد: يعنى عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته. وقوله: (لا على الوالد) فإنما يريد بذلك أن ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها لا يعقلون عنها، وكذلك الإخوة من الأم لا يعقلون عن أختهم لأمهم شيئًا؛ لأن العقل إنما جعل على العصبة دون ذووى الأرحام، ألا ترى قوله (أن ميراثها لزوجها وبنيها وعقلها على عصبتها) يريد أن من ورثها لم يعقل عنها حين لم يكن من عصبتها. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك والكوفيين، والشافعى وأحمد بن حنبل، وأبى ثور وكل من أحفظ عنه. واختلفوا فى عقل الجنين، وهى الغرة على من تجب؟ فقالت طائفة: هى على العاقلة أيضًا، هذا قول النخعى والثورى والكوفيين والشافعى. وقال آخرون: هى فى مال الجانى، روى ذلك عن الحسن والشعبى وبه قال مالك والحسن بن صالح. والحجة لقول مالك قوله فى الحديث (وقضى دية المرأة على عاقلتها) ولم يذكر فى ذلك دية الغرة، هذا ظاهر الحديث، وأيضًا فإن عقل الجنين لا يبلغ ثلث الدية، ولا تحمل العاقلة عند مالك إلا لثلث فصاعدًا، هذا قول الفقهاء السبعة، وهو الأمر القديم عندهم. وحجة القول الأول: ما رواه أبو موسى الزمنى قال: حدثنا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهرى فى حديث أبى هريرة: (أن الرسول قضى بديتها ودية جنينها على عاقلتها) وبما رواه مجالد بن سعيد، عن الشعبى، عن جابر (أن الرسول جعل غرة الجنين على عاقلة القاتلة). وقال آخرون: إن المجالد بن سعيد ليس بحجة فيما انفرد به، وأبو موسى الزمنى، وإن كان ثقة، فلم يتابعه أحد على قوله: (ودية جنينها). واختلفوا لمن تكون الغرة التى تجب فى الجنين فذكر ابن حبيب أن مالكًا اختلف قوله فى ذلك فمرة قال: الغرة لأم الجنين، وهو قول الليث، وقال مرة: هى بين الأبوين، الثلثان للأب والثلث للأم. وهو قول أبى حنيفة والشافعى. وحجة القول الأول: إن الغرة إنما وجبت لأم الجنين؛ لأنه لم يعلم إن كان الجنين حيا فى وقت وقوع الضربة بأمه أم لا. وحجة القول الثانى: أن المرأة المضروبة لما ماتت من الضربة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالدية مع قضائه بالغرة، فلو كانت الغرة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى فيها بالغرة، ولكان حكم امرأة ضربتها امرأة فماتت من ضربتها فعليها ديتها، ولا تجب عليها للضربة أرش. وقد أجمعوا أنه لو قطع يدها خطأ فماتت من ذلك لم يكن لليد دية، ودخلت فىدية النفس، فلما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دية المرأة بالغرة ثبت بذلك أن الغرة دية الجنين لا لها، فهى موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيا فمات. قال الطحاوى: وفى حكم النبى صلى الله عليه وسلم فى الجنين بغرة ولم يحكم فيه بكفارة؛ حجة لمالك وأبى حنيفة على الشافعى فى إيجابه كفارة عتق رقبة على من تجب عليه الغرة ولا حجة له، ولو وجبت فيه كفارة لحكم بها صلى الله عليه وسلم، والكفارة إنما تجب فى إتلاف روح، ولسنا على يقين فى أن الجنين كان حيا وقت ضربه أمه ولو أيقنا ذلك لوجبت فيه الدية كاملة، فلما أمكن أن يكون حيا تجب فيه الدية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا لا يجب فيه شىء؛ قطع النبى صلى الله عليه وسلم التنازع والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة، ولم يجعل فيه كفارة. قاله ابن القصار. وفى هذا الحديث حجة لمن أوجب دية شبه العمد على العاقلة، وهو قول الثورى والكوفيين والشافعى. قالوا: من قتل إنسانًا بعصىً أو حجر أو شبهه، مما يمكن أن يموت به القتيل، ويمكن ألا يموت فمات من ذلك أن فيه الدية على عاقلة القاتل كما حكم النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه القضية بدية المرأة على عاقلة القاتلة، قالوا: وهذا شبه العمد، والدية فيه مغلظة ولا قود فيه. وأنكر مالك والليث شبه العمد وقال مالك: هو باطل فكل ما عمد به القتل فهو عمد، وفيه القود. والحجة لهم ما روى أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر (أنه نشد الناس: ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجنين؟ فقام حمل ابن مالك، فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جنينها بغرة وأن تقتل المرأة). قالوا: وهذا مذهب عمر بن الخطاب، روى عنه أنه قال: يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل أكلة اللحم، قال الحجاج: يعنى العصا، ثم يقول: لا قود علىَّ، لا أوتى بأحدٍ فعل ذلك إلا أقدته. قال المؤلف: فسألت بعض شيوخى عن حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، فقال: الأحاديث التى جاء فيها الدية على العاقلة أصح منه؛ لأن ابن عيينة قد رواه عن عمرو بن دينار ولم يذكر فيه قتل المرأة الضاربة بالمسطح، وكذلك رواه الحميدى، عن هشام بن سليمان المخزومى، عن ابن جريج مثل رواية ابن عيينة ولم يذكر فيه قتل المرأة، وروى شعبة، عن قتادة، عن أبى المليح، عن حمل بن مالك بن النابغة قال: (كانت لى امرأتان فضربت إحداهما الأخرى بحجر فأصابتها فقتلتها وهى حامل، فألقت جنينًا وماتت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، وقضى فى الجنين بغرة عبد أو أمة). قال الطحاوى: فلما اضطرب حديث حمل بن مالك كان بمنزلة ما لم يرد فيه شىء، وثبت ما روى أبو هريرة والمغيرة فيها وهو نفى القصاص. ولما ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل دية المرأة على العاقلة ثبت أن دية شبه العمد على العاقلة، وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود. وقد تأول الأصيلى حديث أبى هريرة والمغيرة على مذهب مالك، فقال: يحتمل أن يكون لما وجب قتل المرأة تطوع قومها عاقلتها ببذل الدية لأولياء المقتولة، ثم ماتت القاتلة، فقبل أولياء المقتولة الدية، وقد يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم النبى صلى الله عليه وسلم بأداء ما تطوعوا به إلى أولياء المقتولة.
وَيُذْكَرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ بَعَثَتْ إِلَى مُعَلِّمِ الْكُتَّابِ ابْعَثْ إِلَىَّ غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا، وَلا تَبْعَثْ إِلَىَّ حُرًّا. - فيه: أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِى الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِى لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا. قال المهلب: فى هذا دليل على جواز استخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كبير مشقة فيه وفيما لا يخاف عليهم منه التلف، كما استخدم النبى صلى الله عليه وسلم أنسًا وهو صغير فيما أطاقه وقوى عليه. قال غيره: اشتراط أم سلمة ألا يرسل إليها حرا؛ فلأن جمهور العلماء يقولون: من استعان صبيا حرا لم يبلغ أو عبدًا بغير إذن مولاه فهلكا فى ذلك العمل؛ فهو ضامن لقيمة العبد، وهو ضامن لديه الصبى الحر وهى على عاقلته. فإن حمل الصبى على دابة يسقيها أو يمسكها فوطئت الدابة رجلا فقتلته، فقال مالك فى المدونة: الدية على عاقلة الصبى، ولا ترجع على عاقلة الرجل. وهو قول الثورى. فإن استعان حرًا بالغًا متطوعًا أو بإجارة فأصابه شىء؛ فلا ضمان عليه عند جميعهم إن كان ذلك العمل لا غرر فيه، وإنما يضمن من جنى أو تعدى. واختلفوا إذا استعمل عبدًا بالغًا فى شىء فعطب. فقال ابن القاسم: إن استعمل عبدًا فى بئر يحفرها ولم يؤذن له فى الإجارة فهو ضامن إن عطب، وكذلك إن بعثه بكتاب إلى سفر. وروى ابن وهب، عن مالك قال: سواء أذن له سيده فى الإجارة أم لا، لا ضمان عليه فيما أصابه إلا أن يستعمله فى غرر كثير؛ لأنه لم يؤذن له فى الغرر. قال سحنون: وهذه الرواية أحسن من قول ابن القاسم وغيره. فإن قيل: فما وجه قوله: (ما قال لى لشىء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا). وظاهره أنه تكرير يدخل فى القسم الأول. قيل: إنما أراد أنه لم يلمه فى القسم الأول على شىء فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، ولا لامه فى القسم الآخر على شىء ترك فعله خشية الخطأ فيه، فتركه أنس من أجل ذلك، فلم يلمه النبى صلى الله عليه وسلم على تركه إذ كان يتجوزه منه لو فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، وإلى هذا أشار بقوله هذا (هكذا) لأنه كما تجوز عنه ما فعله ناقصًا عن إرادته كذلك كان يتجوز عنه ما لم يفعله خشية مواقعة الخطأ فيه لو فعله ناقصًا لشرف خُلقه وحلمه صلى الله عليه وسلم.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ). قال أبو عبيد: قوله صلى الله عليه وسلم: (البئر جبار) هى البئر العادية القديمة التى لا يعلم لها حافر ولا مالك تكون فى البوادى يقع فيها إنسان أو دابة، فلذلك هدر، وإذا حفرها فى ملكه أو حيث يجوز حفرها فيه؛ لأنه صنع من ذلك ما يجوز له فعله، قال مالك: والذى يجوز له من ذلك البئر يحفرها للمطر، والدابة ينزل عنها الرجل لحاجة الرجل فيقفها فى الطريق؛ فليس على أحد فى هذا غرم، وإنما يضمن إذا فعل من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه على طريق المسلمين، فما أصابت من جرحٍ أو غيره، وكان عقله دون ثلث الدية فهو فى ماله، وما بلغ الثلث فصاعدًا فهو على العاقلة، وبهذا كله قال الشافعى وأبو ثور. وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: من حفر بئرًا فى موضع يجوز له ذلك فيه أو أوقف دابة فليس ببئره من الضمان ما جاز إحداثه له كراكب الدابة يضمن ما عطب بها، وإن كان له أن يركبها أو يسير عليها، وهذا خلاف للحديث، ولا قياس مع النصوص. وقال أبو عبيد: أما قوله: (المعدن جبار) فإنها هذه المعادن التى يستخرج منها الذهب والفضة، فيجئ قوم يحفرونها بشىء مسمى لهم فربما انهارت عليهم المعدن فقتلتهم فنقول: دماؤهم هدر، ولا خلاف فى ذلك بين العلماء. واختلف مالك والليث فى رجل حفر بئرًا فى داره للسارق، أو وضع حبالات أو شيئًا يقتله به فعطب به السارق أو غيره فهو ضامن. وقال الليث: لا ضمان عليه. والحجة لمالك أنه لا يجوز له أن يقصد بفعل ذلك ليهلك به أحدًا لأنه متعد بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغير ذلك، فإن حفر الحفير فى حائطه للسباع فعطب به إنسان فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل ما له فعله، ولا غنى به عنه، ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا، وقد روى معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (البار جبار). وقال يحيى بن معين: أصله البئر جبار، ولكنه تصحف. قال ابن المنذر: وأهل اليمن يقولون: البار، فكتبها بعضهم بالياء، فرأى القارئ البير فظنها البار على لغته، فصحفها وإنما هو البئر جبار.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا لا يُضَمِّنُونَ مِنَ النَّفْحَةِ، وَيُضَمِّنُونَ مِنْ رَدِّ الْعِنَانِ. وقال حَمَّادٌ: لا تُضْمَنُ النَّفْحَةُ إِلا أَنْ يَنْخُسَ إِنْسَانٌ الدَّابَّةَ، وَقَالَ شُرَيْحٌ لا تُضْمَنُ مَا عَاقَبَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا فَتَضْرِبَ بِرِجْلِهَا. وقال الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إِذَا سَاقَ الْمُكَارِى حِمَارًا عَلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَتَخِرُّ لا شَيْءَ عَلَيْهِ. وقال الشَّعْبِىُّ: إِذَا سَاقَ دَابَّةً فَأَتْبَعَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا مُتَرَسِّلا لَمْ يَضْمَنْ. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ). قال أبو عبيد: العجماء: الدابة، وإنما سميت عجماء لأنها لا تتكلم، وكذلك كل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجم وأعجمى. والجُبارُ: الهدر الذى لا دية فيه، وإنما جعلت هدرًا إذا كانت منفلتة ليس لها قائد ولا راكب. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء أنه ليس على صاحب الدابة المنفلتة ضمان فيما أصابت. وما ذكره البخارى عن حماد وشريح والشعبى أنهم كانوا لا يضمنون النفحة إلا أن ينخس الدابة فعليه أكثر العلماء؛ لأن ما فعلته من أداء ذلك، فإنما هو جناية راكبها أو سائقها؛ لأنه الذى ولّدَ لها ذلك. قال مالك: فإن رمت من غير أن يفعل بها شيئًا ترمح له، فلا ضمان عليه، وهو قول الكوفى والشافعى. وأما قول ابن سيرين: كانوا لا يضمنون النفحة، ويضمنون من رد العنان، فالنفحة: ما أصابت برجلها. وفرق الكوفيون ما أصابت بيدها ورجلها، فقالوا: لا يضمن ما أصابت برجلها أو ذنبها وإن كانت بسببه، ويضمن ما أصابت بيدها ومقدمها. ولم يفرق مالك والشافعى بين ما أصابت بيدها أو برجلها أو بفمها فى وجوب الضمان على الراكب والقائد والسائق إذا كان ذلك من نخسه أو كبحه. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: لا يمكنه التحفظ من الرجل أو الذنب فهو جبار، ويمكنه التحفظ من اليد والفم فعليه ضمانه. قالوا: وقد روى سفيان بن حسين، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل جبار). قال الشافعى: وهذا الحديث غلط؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا. قال ابن القصار: فإن صح فمعناه: الرجل جبار بهذا الحديث، وتكون اليد جبارًا قياسًا على الرجل إذا كان بغير سببه ولا صنعه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) ولم يخص يدًا من رجل، فهو على العموم. قال الشافعى: ومن اعتل أنه لا يرى رجلها فهو إذا كان سائقها لا يرى يدها فينتفى أن يلزمه فى القياس أن يضمن عن الرجل ولا يضمن عن اليد. وقول شريح: لا تضمن ما عاقبت به، فقد قيل له: وما عاقبت؟ قال: إن يضربها فتضربه. واختلفوا من هذا الباب فيما تفسده البهائم إذا انفلتت فى الليل والنهار، فقال مالك والشافعى: ما أفسدته المواشى إذا انفلتت بالنهار فليس على أهلها منه شىء إلا أن يكون صاحبها معها ويقدر على منعها، وما أفسدته بالليل فضمانه على أرباب المواشى. وقال الكوفيون: لا ضمان على أرباب البهائم فيما تفسده لا فى ليل ولا فى النهار إذا كانت منفلتة، إلا أن يكون راكبًا أو قائدًا أو سائقًا. وقال الليث: يضمن بالليل والنهار. واحتج الكوفيون بقوله صلى الله عليه وسلم: (جرح العجماء جبار)، وقالوا: لم يفرق بين جنايتها بالليل والنهار. وحجة القول الأول: حديث مالك، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعيد: (أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت زرعًا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أرباب الثمار حفظها بالنهار، وعلى أرباب المواشى حفظها بالليل وعليهم ضمان ما أفسدت بالليل) وهذا نص فى أن ما أفسدت بالنهار لا ضمان عليهم فيه. قال ابن القصار: لما كان لأرباب الماشية تسريحها بالنهار وكان على أرباب الثمار حفظها بالنهار، فإذا فرطوا فى الحفظ لم يتعلق لهم على أرباب المواشى ضمان، ولما كان على أرباب المواشى حفظ مواشيهم بالليل فإن أصحاب الأموال ليس عليهم حفظ زروعهم بالليل، وفرط أهل المواشى فى ترك الحفظ لزمهم الضمان، وعلى هذا جرت العادة ورتبه النبى صلى الله عليه وسلم وهذا القول أولى بالصواب لوجوب الجمع بين حديث العجماء جبار وحديث ناقة البراء، وليس أحدهما أولى بالاستعمال من الآخر. ووجه استعمالهما أن يكون قوله: (العجماء جبار) فى النهار ولا يكون جبارًا فى الليل لحديث ناقة البراء. وأما قول الليث فمخالف لحديث ناقة البراء ولحديث العجماء جبار فلا وجه له.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا). قال المهلب: هذا دليل أن المسلم إذا قتل الذمىّ فلا يقتل به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الوعيد للمسلم وعظم الإثم فيه فى الآخرة، ولم يذكر بينهما قصاصًا فى الدنيا، وسيأتى بعد هذا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لم يرح رائحة الجنة) معناه على الوعيد، وليس على الحتم والإلزام، وإنما هذا لمن أراد الله إنفاذ الوعيد عليه. قال أبو عبيد: لم يرح رائحة الجنة، ويُرِحْ ويَرَحْ من أرحت، قال أبو حنيفة: أرحت الرائحة وأرحتها ورحتها إذا وجدتها. فإن قال قائل: مامعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا) وقد روى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، سمعت مجاهدًا يحدث عن عبد الله بن عمرو، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من قدر مسيرة سبعين عامًا) وقد جاء حديث فى الموطأ: (كاسيات عاريات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام) فما وجه اختلاف المدد فى وجود ريح الجنة؟ قيل: يحتمل والله أعلم أن تكون الأربعون هى أقصى أشد العمر فى قول أكثر أهل العلم، فإذا بلغها ابن آدم زاد عمله ويقينه، واستحكمت بصيرته فى الخشوع لله والتذلل له، والندم على ما سلف له، فكأنه وجد ريح الجنة التى تبعثه على الطاعة وتمكن من قلبه الأفعال الموصلة إلى الجنة، فبهذا وجد ريح الجنة على مسيرة أربعين عامًا. وأما السبعون فإنها آخر المعترك، وهى أعلى منزلة من الأربعين فى الاستبصار، ويعرض للمرء عندها من الخشية والندم لاقتراب أجله ما لم يعرض له قبل ذلك، وتزداد طاعته بتوفيق الله، فيجد ريح الجنة على مسيرة سبعين عامًا. وأما وجه الخمسمائة عام فهى فترة ما بين نبى ونبى، فيكون من جاء فى آخر الفترة واهتدى باتباع النبى صلى الله عليه وسلم الذى كان قبل الفترة، ولم يضره طولها فوجد ريح الجنة على مسيرة خمسمائة عام، والله أعلم.
- فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِى الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. ذهب جمهور العلماء إلى ظاهر الحديث، وقالوا: لا يقتل مسلم بكافر على وجه القصاص، روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت، وبه قال جماعة من التابعين وهو مذهب مالك والأوزاعى والليث والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، إلا أن مالكًا والليث قالا: إن قتله غيلة قتل به، وقتل الغيلة عندهم أن يقتله على ماله كما يصنع قاطع الطريق لا يقتله لثائرة ولا عداوة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن أبى ليلى إلى أنه يقتل المسلم بالذمى، ولا يقتل بالمستأمن والمعاهد، وهو قول سعيد بن المسيب والشعبى والنخعى، وحكم المستأمن والمعاهد عندهم حكم أهل الحرب. واحتج الكوفيون بما رواه ربيعة عن ابن البيلمانى: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجلا من المسلمين برجل من أهل الذمة، وقال: أنا أحق من وفى بذمته). قال ابن المنذر: وهذا حديث منقطع، وقد أجمع أهل الحديث على ترك المتصل من حديث ابن البيلمانى فكيف بالمنقطع؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل المؤمن بكافر) حجة قاطعة فى هذا الباب لثباته عنه صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لمن خالفه. واحتج الكوفيون بالإجماع على أن المسلم تقطع يده إذا سرق من مال ذمى؛ فنفسه أحرى أن تؤخذ بنفسه، وهذا قياس حسن لولا أنه باطل بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر). فإن قالوا: قد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد فى عهده) يعنى بكافر؛ لأنه معلوم أن الإسلام يحقن الدم، والعهد يحقن الدم. قيل: بهذا الحديث علمنا أن المعاهد يحرم دمه، وهى فائدة الخبر ومحال أن يأمر تعالى بقتل الكافر حيث وجد ثم يقول: إذا قتلوهم قتلوا بهم. والمعنى: لا يقتل مؤمن بكافر على العموم فى كل كافر، ولا يقتل ذو عهد فى عهده قصة أخرى، وهو عطف على (لا يقتل) لأن هذا الذى أضمر لو أظهر فقيل: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا يقتل ذو عهد فى عهده، ولو أفرد وحده. فقيل: لا يقتل ذو عهد ولم يكن قبله كلام لكان مستقيمًا، وإنما ضم هذا الكلام إلى القصة التى قبلها والله أعلم ليعلموا حين قيل لهم لا يقتل مؤمن بكافر أنهم نهوا عن قتل ذى العهد فى عهده فاحتمل ذلك فى كل ذى عهد من أهل الذمة المقيمين فى دار الإسلام، وفيمن دخل بأمان وهو فى معنى قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} [التوبة: 6] الآية، فأعلم الله ذلك عباده. قاله إسماعيل بن إسحاق وابن القصار. وأما قول مالك والليث أن المسلم إذا قتل الكافر قتل غيلة قتل به، فمعنى ذلك أن قتل الغيلة إنما هو من أجل المال، والمحارب والمغتال إنما يقتلان لطلب المال لا لعداوة بينهما، فقتل العداوة والثائرة خاص وقتل المغتال عام فضرره أعظم؛ لأنه من أهل الفساد فى الأرض، وقد أباح الله قتل الذين يسعون فى الأرض بالفساد سواء قتل أو لم يقتل، فإذا قتل فقد تناهى فساده، وسواء قتل مسلمًا أو كافرًا أو حرًا أو عبدًا.
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأنْصَارِ، قَدْ لَطَمَ وَجْهِى، فَقَالَ: ادْعُوهُ، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ: أَلَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى مَرَرْتُ بِالْيَهُودِى، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، قَالَ: قُلْتُ: أَعَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَأَخَذَتْنِى غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ، قَالَ: لا تُخَيِّرُونِى مِنْ بَيْنِ الأنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَفَاقَ قَبْلِى، أَمْ جُوزِىَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ) فيه من الفقه: أنه لا قصاص بين مسلم وكافر وهو قول جماعة الفقهاء، والدليل على ذلك من هذا الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقاص اليهودى من لطمة المسلم له، ولو كان بينهما قصاص لبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعث معلمًا وعليه فرض التبليغ. فإن قيل: إن الكوفيين يرون قتل المسلم بالكافر فيجب أن يكون على قولهم بينه وبين المسلم قصاص فى اللطمة. قيل: إن الكوفيين لا يرون القصاص بين المسلمين فى اللطمة ولا الأدب، إلا أن يجرحه ففيه الأرش، والكافر والمسلم أحرى ألا يرون بينهما قصاصًا، فالمسألة إجماع. قال المهلب: وفيه جواز رفع المسلم إلى السلطان بشكوى الكافر به. وفيه: خلق النبى صلى الله عليه وسلم وما جبله الله عليه من التواضع وحسن الأدب فى قوله: (لا تخيرونى من بين الأنبياء) فذلك كقول أبى بكر الصديق: وليتكم ولست بخيركم. وقد تقدم، فينبغى لأهل الفضل والاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر فى ذلك، فإن التواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين. وقد روى أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم، فلينظر إلى أبى ذر) ذكره ابن أبى شيبة. وفيه: أن العرش جسم وأنه ليس العلم كما قال سعيد بن جبير لقوله: (آخذ بقائمة من قوائم العرش) والقائمة لا تكون إلا جسمًا، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17] ومحال أن يكون المحمول غير جسم؛ لأنه لو كان روحانيًا لم يكن فى حمل الملائكة الثمانية له عجب، ولا فى حمل واحد، فلما عجب الله تعالى بحمل الثمانية له؛ علمنا أنه جسم؛ لأن العجب فى حمل الثمانية للعرش لعظمته وإحاطته.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وَقَالَ: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (} [لقمان: 13]. - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ،: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ... الحديث. - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِى الإسْلامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِى الإسْلامِ أُخِذَ بِالأوَّلِ وَالآخِرِ). قال المؤلف: لا إثم أعظم من إثم الإشراك بالله، ولا عقوبة أعظم من عقوبته فى الدنيا والآخرة؛ لأن الخلود الأبدى فى النار لا يكون فى ذنب غير الشرك بالله تعالى ولا يحبط الإيمان غيره؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وإنما سمَّى الله الشرك ظلمًا؛ لأن الظلم عند العرب وضع الشىء فى غير موضعه؛ لأنه كان يجب عليه الاعتراف بالعبودية والإقرار بالربوبية لله تعالى حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وخلقه من قبل ولم يك شيئًا، ومنَّ عليه بالإسلام والصحة والرزق إلى سائر نعمه التى لا تحصى. وقد ذكر بعض المفسرين فى قوله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان: 20] أن رجلا من العباد عد نفسه فى اليوم والليلة، فوجد ذلك أربعة عشر ألف نفس، فكم يرى لله على عباده من النعم فى غير النفس مما يعلم ومما لا يعلم، ولا يهتدى إليه، وقد أخبر الله تعالى أن من بدل نعمة الله كفرًا فهو صال فى جهنم، فقال تعالى: {ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} [إبراهيم: 28، 29]. قال المهلب: وأما حديث ابن مسعود فمعناه: من أحسن فى الإسلام بالتمادى عليه ومحافظته، والقيام بشروطه؛ لم يؤاخذ بما عمل فى الجاهلية، وأجمعت الأمة أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله. وأما قوله: (من أساء فى الإسلام) فمعناه: من أساء فى عقد الإسلام والتوحيد، بالكفر بالله، فهذا يؤخذ بكل كفر سلف له فى الجاهلية والإسلام، فعرضت هذا القول على بعض العلماء فأجازوه، وقالوا: لا معنى لحديث ابن مسعود غير هذا، ولا تكون هذه الإساءة إلا الكفر؛ لأجماع الأمة أن المؤمنين لا يؤاخذون بما عملوا فى الجاهلية.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِىُّ وَإِبْرَاهِيمُ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ. وقال اللَّهُ تعالى: {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} الآيات، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (، [آل عمران: 100] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}إِلَى: {سَبِيلا} [النساء: 137]. وقال: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وقال: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} إِلَى: {الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ} [النحل: 106] يَقُولُ حَقًّا، {أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 109] إِلَى: {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} إِلَى: {خَالِدُون} [البقرة: 217]. - فيه: عِكْرِمَةَ، قَالَ: أُتِىَ عَلِىٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ). - وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم بعثه إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ إِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. اختلف العلماء فى استتابة المرتد، فروى عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلى وابن مسعود أنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، وهو قول أكثر العلماء. وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد فى الحال، روى ذلك عن الحسن البصرى وطاوس وذكره الطحاوى عن أبى يوسف، وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) قالوا: ولم يذكر فيه استتابةً، وكذلك حديث معاذ وأبى موسى قتلوا المرتد بغير استتابة. قال الطحاوى: جعل أهل هذه المقالة حكم المرتد حكم الحربيين إذا بلغتهم الدعوة أنه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا قال: وإنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة منه، فأما إن خرج منه عن بصيرة فإنه يقتل دون استتابة. قال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة، خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى. قال ابن القصار: والدليل على أنه يستتاب الإجماع، وذلك أن عمر بن الخطاب قال فى المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعتموه كل يوم رغيفًا لعله يتوب فيتوب الله عليه، اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى. ولم يختلف الصحابة فى استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، أن المراد بذلك إذا لم يتب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5] فهو عموم فى كل كافر. وأما حديث معاذ وأبى موسى فلا حجة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنه روى أنه قد كان استتابه أبو موسى، روى أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن حميد بن هلال: (أن معاذًا أتى أبا موسى وعنده يهودى أسلم، ثم ارتد، وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه). واختلفوا فى استتابة المرتدة، فروى عن على بن أبى طالب أنها لا تستتاب وتسترق، وبه قال عطاء وقتادة وروى الثورى عن بعض أصحابه، عن عاصم بن بهدلة، عن أبى رزين، عن ابن عباس قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويجبرن عليه. ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتد والمرتدة، وروى عن أبى بكر الصديق مثله. وشذ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بما روى عن ابن عباس فى ذلك، وقالوا: إن ابن عباس روى عن الرسول: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم ير قتل المرتدة فهو أعلم بمخرج الحديث، واحتجوا بأن الرسول نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدة لا تقتل، فوجب أن لا تقتل كالحربية. وحجة الجماعة أنها تستتاب قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ولفظ (من) يصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه الرجال والنساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخص امرأة من رجل. قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل جُرم اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام فى كتابه، وحدود دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص وكانت الأحكام والحدود التى هى دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ هذا غلط بَيِّن. وأما حديث ابن عباس فإنما رواه أبو حنيفة، عن عاصم، وقد قال أحمد بن حنبل: لم يروه الثقات من أصحاب عاصم كشعبة وابن عيينة وحماد بن زيد، وإنما رواه الثورى، عن أبى حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت لأبى حنيفة: هذا الذى قاله ابن عباس إنما قاله فيمن أتى بهيمة أنه لا قتل عليه، لا فى المرتدة، فتشكك فيه وتلون لم يقم به، فدل أنه خطأ. ولو صح لكان قول ابن عباس معارضه؛ لأن أبا بكر الصديق مخالف له، وقد قال: تستتاب المرتدة. ثم يرجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) الذى هو الحجة على كل أحد. وأما قياسهم لها على الحربية فالفرق بينهما أن الحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة: لا تسبى ولا تسترق، فليس فى استبقائها غنم. واختلفوا فى الزنديق هل يستتاب؟ فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل توبته. قال مالك: والزنادقة: ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وستر الكفر. واختلف قول أبى حنيفة وأبى يوسف؛ فمرة قالا: يستتاب، ومرة قالا: لا يستتاب. وقال الشافعى: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وهو قول عبيد الله بن الحسن. وذكر ابن المنذر، عن على بن أبى طالب مثله. وقيل لمالك: لم يقتل الزنديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأن توبته لا تعرف، وأيضًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو قتلهم بعلمه؛ لكان ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبى صلى الله عليه وسلم يقتل من دخل فى الإسلام؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بالكفر. هذا معنى قوله، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لئلا يقول الناس أنه يقتل أصحابه). واحتج الشافعى بقوله تعالى فى المنافقين: (واتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 16، المنافقون: 2] قال: وهذا يدل على أن إظهار الإيمان جنة من القتل وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهادة بالأيمان تعصم الدم والمال، فدل أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله. وقد أجمعوا أن أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد حين قتل الذى استعاذ بالشهادة: (هلا شققت عن قلبه) فدل أنه ليس له إلا ظاهره. قال: وأما قولهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين لئلا يقولوا أنه قتلهم بعلمه وأنه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدل أن ظاهر الإيمان جنة من القتل. وفى سنته صلى الله عليه وسلم فى المنافقين دلالة على أمور: منها: أنه لا يقتل من أظهر التوبة من كفر بعد إيمان. ومنها: أنه حقن دماءهم، وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على أحكام المسلمين، فناكحوهم ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا فى مساجد المسلمين، ولا أبين كفرًا ممن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. قال المهلب: من أبى قبول الفرائض فحكمه مختلف، فمن أبى من أداء الزكاة وهو مقر بوجوبها، فإن كان بين ظهرانى المسلمين، ولم ينصب الحرب، ولا امتنع بالسيف؛ فإنه يؤخذ من ماله جبرًا، ويدفع إلى المساكين ولا يقتل. وقال مالك فى الموطأ: الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه. ومعناه: إذا أقر بوجوبها، لا خلاف فى ذلك. قال المهلب: وإنما قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة؛ لأنهم امتنعوا بالسيف، ونصبوا الحرب للأمة. واجمع العلماء أن من نصب الحرب فى منع فريضة، أو منع حقا يجب عليه لآدمى أنه يجب قتاله، فإن أبى القتل على نفسه فدمه هدر. قال ابن القصار: وأما الصلاة فإن مذهب الجماعة أن من تركها عامدًا جاحدًا لها فحكمه حكم المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك جحد سائر الفرائض، وإنما اختلفوا فيمن تركها لغير عذر غير جاحد لها، وقال: لست أفعلها؛ فمذهب مالك: أن يقال له صل ما دام الوقت باقيًا من الوقت الذى ظهر عليه، فإن صلى ترك، وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل. قال ابن القصار: واختلف أصحابنا، فقال بعضهم: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وقال بعضهم: يقتل؛ لأن هذا حد لله يقام عليه، لا تسقطه التوبة بفعل الصلاة وهو بذلك فاسق، كالزانى والقاتل، وليس بكافر، وبهذا قال الشافعى. قال الثورى وأبو حنيفة والمزنى: لا يقتل بوجه، ويخلى بينه وبين الله تعالى. والمعروف من مذهب الكوفييون أن الإمام يعزره حتى يصلى. وقال أحمد بن حنبل: تارك الصلاة مرتد كافر، وماله فئ لا يورث، ويدفن فى مقابر المشركين، وسواء ترك الصلاة جاحدًا لها أو تكاسلاً. ووافق الجماعة فى سائر الفرائض أنه إذا تركها لا يكفر. واحتج الكوفييون فقالوا: أجمع العلماء أن تارك الصلاة يؤمر بفعلها، والمرتد لا يؤمر بفعل الصلاة، وإنما يؤمر بالإسلام ثم بالصلاة. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على عباده، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة) فدل أنه ليس بكافر، لأن الكافر لا يدخل الجنة، وحجة القول الأول قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5] فأمر بقتلهم إلا أن يتوبوا، والتوبة هى اعتقاد الإيمان الذى من جملته اعتقاد وجوب الصلاة وسائر العبادات. ألا ترى إلى قول أبى بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فلم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا: لا تشبه الصلاة الزكاة. وروى جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر). والرد على أحمد بن حنبل من قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) وقد ثبت أن الكافر يدخل النار لا محالة، فلا يجوز أن يقال فيه مثل هذا، فعلمنا أنه صلى الله عليه وسلم قصد من تركها وهو معتقد لوجوبها لا جاحدًا؛ لأن الجاحد يدخل النار لا محالة، ولا حجة لأحمد فى إباءة إبليس من السجود وصار بذلك كافرًا؛ لأنه عاند الله واستكبر، ورد على الله أمره فجاهر بالمعصية لله، فهو أشد من الجاحد أو مثله؛ لأنه جحدها واستيقنتها نفسه. وقال ابن أبى زيد: الدليل على أن تارك الفرائض غير جاحد لها فاسق وليس بكافر؛ إجماع الأمة أنهم يصلون عليه، ويورث بالإسلام، ويدفن مع المسلمين. وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال: من قال: لا أحج فلا يجبر على ذلك، وليس كمن قال: لا أتوضأ، ولا أصوم رمضان، فإن هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كقوله: لا أصلى. قال المهلب: والفرق بين الحج وسائر الفرائض أن الحج لا يتعلق وجوبه بوقت معين، وإنما هو على التراخى والإمهال إلى الاستطاعة، وذلك موكول إلى دين المسلم وأمانته، فلو لزم فيه الفور لقيده الله بوقت كما قيد الصلاة والصيام بأوقات. ومما يدل أن الحج ليس على الفور، وغير لازم فى الفروض الموقتة، ألا ترى أن المصلى لا تلزمه الصلاة عند زوال الشمس، وهو فى سعة عن الفور إلى أن يدرك ركعة من آخر وقتها ولم يكن بتأخيرها عن أول وقتها مضيعًا، كذلك فيما لم يوقت له وقت أولى بالإمهال والتراخى، والله الموفق. وميراث المرتد مذكور فى كتاب الفرائض، وأما حكم ولد المرتد فلا يخلو أن يكون ولده صغيرًا أو كبيرًا، فإن كان كبيرًا فحكمه حكم نفسه لا حكم أبيه، وكذلك إن كان صغيرًا لم يبلغ؛ لأنه قد صح له عقد الإسلام إذا ولد وأبوه مسلم، فلا يكون مرتدا بارتداد أبيه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، فإن ادعى الكفر عند بلوغه استتيب، فأن تاب وإلا قتل، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وجه استرقاق الصديق لورثتهم وسبيهم، وحكم عمر برد سبيهم إلى عشائرهم، ومذهب العلماء فى ذلك.
- فيه: أَنَسِ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ). - وفيه: عَائِشَةَ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ). - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَقُلْ: عَلَيْكَ). - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِى، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. اختلف العلماء فيمن سب النبى صلى الله عليه وسلم فروى ابن القاسم عن مالك أنه من سبه صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم، فأما المسلم فيقتل بغير استتابة، وهو قول: الليث والشافعى وأحمد وإسحاق، عن ابن المنذر. وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى ومالك فيمن سب النبى صلى الله عليه وسلم قالا: هى ردة يستتاب منها فإن تاب نكل، وإن لم يتب قتل. وقال الكوفيون: من سب النبى صلى الله عليه وسلم أو عابه فإن كان ذميا عزر ولم يقتل. وهو قول الثورى وأبى حنيفة وإن كان مسلمًا صار مرتدًا يقتل ولم يقتلهم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن ما هم عليه من الشرك أعظم من سبه صلى الله عليه وسلم. وحجة من رأى القتل على الذمى بسبه أنه قد نقض العهد الذى حقن دمه؛ إذا لم يعاهد على سبه، فلما تعدى عهده عاد إلى حال كافر لا عهد له فوجب قتله إلا أن يسلم؛ لأن القتل إنما كان وجب عليه من أجل نقضه للعهد الذى هو من حقوق الله، فإذا أسلم ارتفع المعنى الذى من أجله وجب قتله. وقال محمد بن سحنون: وقولهم إن من دينهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فيقال لهم: وكذلك من دينهم قتلنا وأخذ أموالنا، فلو قتل واحدًا منا لقتلناه لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، وكذلك سبه صلى الله عليه وسلم إذا أظهر. فإن قيل: فهو إذا أسلم وقد سب النبى صلى الله عليه وسلم تركتموه، وإذا أسلم وقد قتل مسلمًا قتلتموه. قيل: لأن هذا من حقوق العباد لا يزول بإسلامه، وذلك من حقوق الله يزول بالتوبة من دينه إلى ديننا، وحجة أخرى وهو أن الرسول قال: (من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله) فقتله محمد بن مسلمة، والسب من أعظم الأذى، وكذلك قتل صلى الله عليه وسلم ابن خطل يوم فتح مكة والقينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه، ولم ينفع ابن خطل استعاذته بالكعبة. وقال محمد بن سحنون: وفرقنا بين من سب النبى صلى الله عليه وسلم من المسلمين، وبين من سبه من الكفار، فقتلنا المسلم ولم نقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من دينه إلى غيره، إنما فعل شيئًا حده عندنا القتل، ولا عفو فيه لأحد، فكان كالزنديق الذى لا تقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر، والكتابى كان على الكفر، فلما انتقل إلى الإسلام بعد أن سب النبى صلى الله عليه وسلم غفر له ما قد سلف، كما قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. قال غيره: فقياس الكوفيين المسلم إذا سب النبى صلى الله عليه وسلم على المرتد خطأ؛ لأن المرتد كان مظهرًا لدينه فتصح استتابته، والمسلم لا يجوز له إظهار سب النبى صلى الله عليه وسلم وإنما يكون مستترًا به؛ فكيف تصح له توبة؟ وقال ابن القاسم، عن مالك: كذلك من شتم نبيا من الأنبياء، أو تنقصه قتل ولم يستتب، كمن شتم نبينا) لا نفرق بين أحد من رسله} [الأحقاف: 35] وكذلك حكم الذمى إذا شتم أحدًا منهم يقتل إلا أن يسلم، وهذا كله قول مالك وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. قال أهل هذه المقالة: إنما ترك النبى صلى الله عليه وسلم قتل اليهودى الذى قال له: السام عليك، كما ترك قتل المنافقين وهو يعلم نفاقهم، ولا حجة للكوفيين فى أحاديث هذا الباب. وأما حديث ابن مسعود فى الذين ضربوا النبى صلى الله عليه وسلم وأدموه، فإنهم كانوا كفارًا، والأنبياء عليهم السلام شأنهم الصبر على الأذى قال الله تعالى لنبيه: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] فلا حجة للكوفيين فيه.
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. - فيه: عَلِىٌّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فَوَاللَّهِ لأنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِى آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ: مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). - وفيه: أَبِو سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ، أَسَمِعْتَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى مَا الْحَرُورِيَّةُ؟ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَخْرُجُ فِى هَذِهِ الأمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا، قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ، مَعَ صَلاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أَوْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِى إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِى الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَىْءٌ). - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ). قال المهلب وغيره: أجمع العلماء أن الخوارج إذا خرجوا على الإمام العدل وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف؛ أن قتالهم واجب وأن دماءهم هدر، وأنه لا يتبع منهزمهم ولا يجهز على جريحهم. قال مالك: إن خيف منهم عودة أجهز على جريحهم وأتبع مدبرهم، وإنما يقاتلون من اجل خروجهم على الجماعة. قال الطبرى: والدليل على ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أذن فى قتلهم عند خروجهم لقوله: (يخرج فى آخر الزمان قوم سفهاء الأحلام. ثم قال: فأينما لقيتموهم فاقتلوهم) فبان بذلك أنه لا سبيل للإمام على من كان يعتقد الخروج عليه أو يظهر ذلك بقول، ما لم ينصب حربًا أو يخف سبيلا. وقال: هذا إجماع من سلف الأمة وخلفهم. وقد سئل الحسن البصرى عن رجل كان يرى رأى الخوارج، فقال الحسن: العمل أملك بالناس من الرأى إنما يجازى الله الناس بالأعمال. قال الطبرى: وهذا الذى قاله الحسن عندنا إنما هو فيما كان من رأى لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام، فأما الرأى الذى يخرجه من ملة الإسلام، فإن الله قد أخبر أنه يحبط عمل صاحبه. وأما قوله: (يمرقون من الدين) فالمروق عند أهل اللغة الخروج يقال: مرق من الدين مروقًا خرج ببدعة أو ضلالة، ومرق السهم من الغرض إذا أصابه ثم نقره، ومنه قيل للمرق مرق لخروجه. وجمهور العلماء على أنهم فى خروجهم ذلك غير خارجين من جملة المؤمنين لقوله صلى الله عليه وسلم: (ويتمارى فى الفوق) لأن التمارى الشك، وإذا وقع الشك فى ذلك لم يقطع عليهم بالخروج الكلى من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يحكم له بالخروج منه إلا بيقين، وقد روى عن على بن أبى طالب من طرق، أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: هم قوم ضل سعيهم، وعموا عن الحق، بغوا علينا فقاتلناهم. وروى وكيع، عن مسعر، عن عامر بن شقيق عن أبى وائل، عن على قال: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك. وقول ابن عمر: (إنهم عمدوا إلى آيات فى الكفار فجعلوها فى المؤمنين) يدل أنهم ليسوا كفارًا؛ لأن الكافر لا يتأول كتاب الله؛ بل يرده ويكذب به. وقال أشهب: وقعت الفتنة وأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم متوافرون فلم يروا على من قاتل على تأويل القرآن قصاصًا فى قتل، ولا حدا فى وطء. وبهذا قال مالك وابن القاسم، وخالف ذلك أصبغ وقال: يقتل من قتل إن طلب ذلك وليه كاللص يتوب قبل أن يقدر عليه. وهذا خلاف للصحابة ولقول مالك وجميع أصحابه. قال مالك: وما وجه أحد من ماله بعينه عندهم أخذه. وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، وقد روى عن بعض أهل الكلام وأهل الحديث أن أهل البدع كفار ببدعتهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وأئمة الفتوى بالأمصار على خلاف هذا، فإن احتج من قال بكفرهم بقول أبى سعيد الخدرى: (يخرج فى هذه الأمة) ولم يقل: (منها) فدل أنهم ليسوا من جملة المؤمنين. فيقال لهم قد روى فى حديث أبى سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من أمتى قوم). روى مسدد قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا مجالد، حدثنا أبو الوداك جبر بن نوف قال: سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: قال النبى صلى الله عليه وسلم: (يخرج قوم من المؤمنين عند فرقة، أو اختلاف، من الناس، يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه الناس، ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..) وذكر الحديث. قال ابن القاسم فى العتبية: أما أهل الأهواء الذين على الإسلام العارفون بالله مثل القدرية والإباضية وما أشبهها ممن هو على خلاف ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف لتأويل كتاب الله فإنهم يستتابون، أظهروا ذلك أم أسروا، فإن تابوا وإلا قتلوا، وبذلك عمل عمر بن عبد العزيز، ومن قتل منهم فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون، وهذا إجماع، وإنما قتلوا لرأيهم السوء. وذكر ابن المنذر عن الشافعى أنه قال: لا يستتاب القدرى. وذم الكلام ذمًا شديدًا، وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشىء من الأهواء. وقال عبد الرحمن بن مهدى: ما كنت لأعرض أحدًا من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية فإنهم يقولون قولاً منكرًا. وسئل سحنون عن قول مالك فى أهل الأهواء: لا يصلى عليهم، فقال: لا أرى ذلك، ويصلى عليهم، ومن قال: لا يصلى عليهم كفرهم بذنوبهم، وإنما قال مالك: لا يصلى عليهم أدبًا لهم. قيل له: فيستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا كما قال مالك؟ قال: أما من كان بين أظهرنا وفى جماعة أهل السنة فلا يقتل، وإنما الشأن فيه أن يضرب مرة بعد أخرى، ويحبس وينهى الناس عن مجالسته والسلام عليه تأديبًا له، كما فعل عمر بضبيع خلى عنه بعد أدبه، ونهى الناس عنه. فقد مضت السنة فيمن لم يبن من عمر وقضت فيمن بان من أبى بكر الصديق، رضى الله عنهما، قيل له: هؤلاء الذين نصبوا الحرب، وبانوا عن الجماعة وقتلهم الإمام هل يصلى عليهم؟ قال: نعم، وهم من المسلمين، وليس بذنوبهم التى استوجبوا بها القتل ترك الصلاة عليهم، ألا ترى أن المحصن الزانى والمحارب والقاتل عمدًا قد وجب عليهم القتل ولا تترك الصلاة عليهم. قيل له: فما تقول فى الصلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا تعاد فى وقت ولا بعده، وبذلك يقول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة وغيرهما، وإنما يعيد الصلاة من صلى خلف نصرانى، وهذا مسلم فكما تجوز صلاته لنفسه كذلك تجوز لغيره إذا صلى خلفه، وأما النصرانى فلا تجوز صلاته لنفسه فكذلك لا تجوز لغيره، ومن يوجب الإعادة أبدًا أنزله بمنزلة النصرانى، وركب قياس قول الإباضية والحرورية الذين يكفرون الناس بالذنوب. وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب (إمامة المفتون والمبتدع) الاختلاف والصلاة خلفهم. واختلفوا فى رد شهادتهم، فذكر ابن المنذر عن شريك أنه لا تجوز شهادة أهل الأهواء: الرافضة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال مالك: لا تجوز شهادة القدرية. وقال أبو عبيد: البدع والأهواء كلها نوع واحد فى الضلال، كما قال ابن مسعود: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. فلا أرى لأحد منهم شهادة إذا ظهر فيها غلوه وميله عن السنة للآثار المتواترة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم فى الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). وقال فيهم سعد: أولئك قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وقال حذيفة: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لا حظ لهم فى الإسلام. وقال أبو هريرة: القدرية هم نصارى هذه الأمة ومجوسها. وأجازت طائفة شهادة أهل الأهواء إذا لم يستحل الشاهد منهم شهادة الزور، هذا قول ابن أبى ليلى والثورى وأبى حنيفة والشافعى. قال الشافعى: لا أراد شهادة أحد بشىء من التأويل له وجه يحتمله، إلا أن يكون منهم الرجل يباين المحالف له مباينة العداوة فأرده من جهة العدواة. قال: وشهادة من يرى إنفاذ الوعيد خير من شهادة من يستخف بالذنوب. وقال أبو حنيفة: كل من نسب إلى هوى فعرف بالمجانة والفسق فأرده للمجانة التى ظهرت فيه. وأما قوله: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فمعناه أنهم لما تأولوه على غير تأويله لم يرتفع إلى الله، ولا أثابهم عليه؛ إذ كانت أعمالهم له مخالفة بسفك دماء من حرم الله دمه وإخافتهم سبلهم، ويشهد لهذا قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (فبان أن الكلام الطيب يرتفع إلى الله إذا صحبه عمل صالح يصدقه، ومتى خالفه العمل لم يعتد بالقول، ولا كان لقائله فيه غير العناء، وهذا يدل أن الإيمان قول وعمل. وأما قول على: (إذا حدثتكم فيما بينى وبينكم فإن الحرب خدعة) فإنما قال ذلك على فى وقت خروجه للخوارج. ومعنى ذلك أن المعاريض جائزة على ما جاء عن عمر أنه قال: فى المعاريض مندوحة عن الكذب. وليس فى هذا جواز إباحة الكذب الذى هو خلاف الحق؛ لأن ذلك منهى عنه فى الكتاب والسنة، وإنما رخص فى الحرب وغيره فى المعاريض فقط؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والكذب فإنه يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار) وقد تقدم فى كتاب الصلح فى باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس مذاهب العلماء فيما يجوز من الكذب وما لا يجوز، وتقدم منه شىء فى باب الكذب فى الحرب فى كتاب الجهاد، وسيأتى فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى كتاب الأدب مما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى. وأما قول البخارى: باب قتال الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم فمعناه أنه لا يجب قتال خارجى ولا غيره إلا بعد الإعذار إليه، ودعوته إلى الحق، وتبيين ما ألبس عليه، فإن أبى من الرجوع إلى الحق وجب قتاله بدليل قوله تعالى: {وما كان الله ليضل قومًا بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115] فوجب التأسى به تعالى فيمن وجب قتاله أن يبين له وجه الصواب ويدعى إليه. والنصل: حديدة السهم. والرصاف: العقب الذى فوق مدخل السهم. والفوقة والفوق من السهم: موضع الوتر.
- فيه: أَبِى سَعِيدٍ: (بَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ، جَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ ذِى الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِىُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَالَ: ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلُ الْبَضْعَةِ، تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ). قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبى، عليه السلام، وأشهد أن عليًا قتلهم وأنا معه، حتى جىء بالرجل على النعت الذى نعت رسول الله، فنزلت فيهم: (ومنهم من يلمزك فى الصدقات} [التوبة: 58]. - وفيه: سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سئل: (هَلْ سَمِعْتَ فِى الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ: يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ). لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمة وشق عصاها. وأما ذو الخويصرة، فإنما ترك النبى صلى الله عليه وسلم قتله؛ لأنه عذره بجهله، وأخبر أنه من قوم يخرجون ويمرقون من الدين، فإذا خرجوا وجب قتالهم. وقد أخبرت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، وكان يعرض عن الجاهلين. وقد وصف الله كرم خلقه صلى الله عليه وسلم فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. قال المهلب: والتآلف إنما كان فى أول الإسلام؛ إذ كان بالناس حاجة إلى تألفهم لدفع مضرتهم ولمعونتهم، فأما إذا علىَّ الله الإسلام ورفعه على غيره فلا يجب التألف، إلا أن ينزل بالناس ضرورة يحتاج فيه إلى التألف. وقد تقدم. والمروق: الخروج، وقد تقدم. والرمية: الطريدة المرمية. فعيلة بمعنى مفعولة، يقال: شاة رمى: إذا رميت، ويقال: بئس الرمية الأرنب. فيدخل الهاء. والقذذ: ريش السهم، كل واحدة قذة، وقال ثابت: قذتا الجناحين: جانباه. وقال أبو حاتم: القذتان: الأذنان. وأما النضى: فإن أبا عمرو الشيبانى قال: هو نصل السهم. وقال الأصمعى: هو القدح قبل أن ينحت، فإذا نحت فهو مخشوب. والحديث يدل أن القول قول الأصمعى؛ لأنه ذكر النصل قبل النضى فى الحديث. قوله: (يسبق الفرث والدم) يعنى أنه مر مرا سريعًا فى الرمية وخرج، ولم يعلق به من الفرث والدم شىء، فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلق منه شىء بخروج ذلك السهم. وقوله: تدردر: يعنى تضطرب، تذهب وتجئ، ومثله تذبذب وتقلقل وتزلزل. الخطبى. ومنه دردور الماء.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ). هذا إخبار عن الغيب وحدوث الفتنة وقتال المسلمين بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (دعواهما واحدة):: دينهما واحد، ويحتمل أن يكون دعواهما واحدة فى الحق عند أنفسهما واجتهادهما، ويقتل بعضهم بعضًا، وقد جاء فى الكتاب والسنة الأمر بقتال الفئة الباغية إذا تبين بغيها، قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى...} [الحجرات: 9] الآية. قال ابن أبى زيد: قال من لقينا من العلماء: معنى ذلك: إذا بغت قبيلة فقاتلتها حمية وعصبية وفسقًا وفخرًا بالأنساب وغيرها من الثائرة؛ رغبة عن حكم الإسلام فعلى الإمام أن يفرق جماعتهم، فإن لم يقدر فليقاتل من تبين له أنه ظالم لصاحبه، وحلت دماؤهم حتى يقهروا، فإن تحققت الهزيمة عليهم وأيس من عودتهم فلا يقتل منهزمهم، ولا يجهز على جريحهم، وإن لم تستحق الهزيمة ولم يؤمن رجوعهم؛ فلا بأس أن يقتل منهزمهم وجريحهم ولا بأس أن يقتل الرجل فى القتال معهم أخاه وقرابته وجده لأبيه وأمه، فأما الأب فلا. وقال أصبغ: يقتل أباه وأخاه، ولا تصاب أموالهم ولا حرمهم، فإن قدر الإمام على كف الطائفتين بترك القتال فلكل فريق طلب الفريق الآخر بما جرى بينهم فى ذلك من دم ومال، ولا يهدر شىء من ذلك بخلاف ما كان على تأويل القران. وقال بعضه ابن حبيب.
- فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: أَنَّه سَمِع هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، أَوْ بِرِدَائِى، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَقْرَأَنِى هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا، فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِى سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. - وفيه ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: (يَا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. - وفيه: عِتْبَانَ: (غَدَا عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: أَلا تَقُولُوهُ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ لا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ). - وفيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنهما تَنَازَع فَقَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، يَعْنِى عَلِيًّا، قَالَ: مَا هُوَ لا أَبَا لَكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: حَاجٍ، فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأْتُونِى بِهَا، فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَلَفَ عَلِىٌّ، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لأجَرِّدَنَّكِ، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا، وَهِىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِى أَنْ لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّى أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلا لَهُ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، لا تَقُولُوا، لَهُ: إِلا خَيْرًا، قَالَ: فَعَادَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَلأضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شىءتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ). قال المهلب وغيره: لا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأوله غير مأثوم فيه إذا كان تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز فى لسأن العرب، أوكان له وجه فى العلم؛ ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعنف عمر فى تلبيبه لهشام مع علمه بثقته وعذره فى ذلك لصحة مراد عمر واجتهاده. وأما حديث ابن مسعود فإن الرسول عذر أصحابه فى تأويلهم الظلم فى الآية بغير الشرك لجواز ذلك فى التأويل. وأما حديث ابن الدخشن فإنهم استدلوا على نفاقه بصحبته للمنافقين ونصيحته، لهم فعذرهم النبى صلى الله عليه وسلم باستدلالهم، وكذلك حديث حاطب عذره النبى صلى الله عليه وسلم فى تأويله، وشهد بصدقه. وقد تقدم فى الجهاد فى باب الجاسوس، فأغنى عن ذكره وسيأتى فى كتاب الاستئذان فى باب من نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره إن شاء الله تعالى. وقول أبى عبد الرحمن: (لقد علمت ما الذى جرأ صاحبكم على الدماء) يعنى عليا، فإنه أراد قول النبى صلى الله عليه وسلم لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فكأنه أنس بهذا القول، فاجترأ بذلك على الدماء، ولا يجوز أن يظن بعلى أنه اجترأ على هذا دون أن يعطيه ذلك صحيح التأويل والاجتهاد. وإن كان قوله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر) دليل ليس بحتم، ولكنه على أغلب الأحوال، وينبغى أن نحسن بالله الظن فى أهل بدر وغيرهم من أهل الطاعات. وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قصة مسطح حين جلد فى قذف عائشة وكان بدريا مغفورًا له، قالوا: وكان ينبغى ألا يحد لذلك كما لم يعاقب حاطب؛ لأنه كان بدريا مغفورًا له. فأجاب فى ذلك أبو بكر بن الطيب الباقلانى، وقال: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أنه غفر لهم عقاب الآخرة ولم يرد بذلك أنه غفر لهم عقاب الدنيا. وقد أجمعت الأمة أن كل من ركب من أهل بدر ذنبًا بينه وبين الله فيه حد، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجرح أو القتل فإنه عليه فيه الحد والقصاص. وليس يدل عقاب العاصى فى الدنيا وإقامة الحدود عليه على أنه معاقب فى الآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم فى ماعز والغامدية: (لقد تابوا توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم) لأن موضع الحدود أنها للردع، والزجر، وحقن الدماء، وحفظ الحريم وصيانة الأموال، وليس فى عقاب النار شىء من ذلك. فبطل قول من قال: إنه كان ينبغى أن يسقط الحد عن مسطح لكونه بدريا مغفورًا له؛ لأن الخبر عن غفران ذنوبهم إنما هو عن غفران عقاب الآخرة دون الدنيا، ولو أسقط الله عقاب الدارين لكان جائزًا، فغفر لحاطب عقوبته فى الدنيا؛ إذ رأى ذلك مصلحة لما غفر له عقاب الآخرة، وقد يجعل الله لنبيه إسقاط بعض الحدود إذا رأى ذلك مصلحة. قال الطبرى: وفى قوله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) الدلالة البينة على خطأ ما قالته الخوارج والمعتزلة أنه لا يجوز فى عدل الله وحكمته الصفح لأهل الكبائر والمعتزلة من المسلمين عن كبائرهم؛ لأنه لم يكن مستنكرًا عند النبى صلى الله عليه وسلم فى عدل الله أن يصفح عن بعض من سبقت له من الطاعة سابقة، وسلفت له من الأعمال الصالحة سالفة عن جميع أعماله السيئة التى تحدث منه بعدها صغائر وكبائر، فيتفضل بالعفو عنها إكرامًا له لما كان سلف منه قبل ذلك من الطاعة. وخاخ: موضع قريب من مكة. وقوله: أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء). يعنى: ضربت بيدها إلى معقد نطاقها من جسدها، وهو موضع حجزة السراويل من الرجل، وقد مر بعض ما فيه من الغريب فى كتاب الجهاد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم فى قصة مالك بن الدخشن: (ألا تقولوه يقول: لا إله إلا الله)، هكذا جاءت والصواب: (ألا تقولونه يقول: لا إله إلا الله) بإثبات النون، والمعنى ألا تظنونه يقول: لا إله إلا الله، وقد جاء القول بمعنى الظن كثيرًا فى لغة العرب بشرط كونه فى المخاطب، وكونه مستقبلا، أنشد سيبويه لعمر بن أبى ربيعة المخزومى: أما الرحيل فدون بعد غد *** فمتى نقول الدار تجمعنا يعنى: فمتى نظن الدار تجمعنا، ويحتمل أن يكون قوله: (ألا تقولوه) خطابا للواحد والجماعة، فإن كان خطابًا للجماعة، فلا يجوز حذف النون؛ إذ لا موجب لحذفها، وإن كان خطابًا للواحد، وهو أظهر فى نسق الحديث، فهو على لغة من يشبع الضمة كما قال الشاعر: من حيث ما سلكوا أذنوا فانظور *** وإنما أراد انظر فأشبع ضمة الظاء فحدثت عنها واو. قوله فى حديث عمر: (فكدت أساوره) تقول العرب: ساورته من قولهم: سار الرجل يسور سورًا إذا ارتفع. ذكره ابن الأنبارى عن ثعلب، وقد يكون أساوره من البطش؛ لأن السورة البطش. عن صاحب العين. تم بحمد الله الجزء الثامن، ويليه بإذن الله الجزء التاسع وأوله: (كتاب الاستئذان).
|